الحوكمة الجامعية- من الخوف إلى التمكين والابتكار

المؤلف: مصلح الحارثي08.20.2025
الحوكمة الجامعية- من الخوف إلى التمكين والابتكار

من "المحاكمة" إلى "الحوكمة"... ليس الأمر مجرد تلاعب بالألفاظ، بل هو تحول جذري في إدراك المؤسسات ومنهجية الإدارة في الجامعات. ففي بعض الأوساط، لا يزال شبح الخوف من الاجتهاد والتخوف من المبادرة مهيمناً، حيث يُنظر إلى الخطأ على أنه مأزق، والرأي على أنه ثقل، والسكوت كملجأ آمن. وفي ظل هذه الأجواء الملبدة، تنحسر الثقة، وتذوي جذوة الإبداع والابتكار.

أما عندما تسود الحوكمة الرشيدة، يتغير المشهد بشكل كامل؛ فالنظام لا يكون أداة قهر، بل دعامة للعدل، والمساءلة تتحول من وسيلة عقاب إلى أداة للتنمية والتحسين المستمر، وتصبح المبادرة قيمة عليا يُحتفى بها، لا مجازفة يُخشى عواقبها. إنها نقلة نوعية بكل المقاييس.

يشهد العالم اليوم تنافساً محمومًا نحو التفوق والريادة في قطاع التعليم العالي، تقوده قوى الشفافية والمساءلة والتمكين، لا الجمود أو السلطوية. ولم يعد من المقبول على الإطلاق أن تُدار الجامعات بأساليب فردية تعتمد على الأهواء الشخصية، أو أن يُحاسب الموظفون بناءً على الانطباعات العابرة، بينما تتجه الأنظمة الجامعية المرموقة نحو معايير أداء واضحة، وهياكل حوكمة مستقلة، وثقافة مؤسسية تثمن المبادرة المسؤولة، ولا تكبّلها بالتردد أو الحذر المفرط.

وإذا لاحظنا فتورًا في المبادرات في بعض البيئات الجامعية، فليس ذلك بسبب نقص الكفاءات، بل نتيجة لغياب الأمان الوظيفي الذي تمنحه الحوكمة الرشيدة. فعندما يُنظر إلى الاجتهاد بعين الريبة لا بعين التقدير، وتُستخدم النوايا الحسنة كذريعة للتثبيط بدلاً من الدعم، تتضاءل الثقة وتتقلص المساحة للإبداع والابتكار. وما زالت بعض الممارسات تعرقل التقدم المؤسسي؛ مثل التأخير في تفويض السلطات، أو عدم وضوح معايير التقييم، أو التعامل مع المبادرات بروح التحفظ بدلاً من التشجيع. وهنا تظهر الحوكمة الرشيدة كمنظومة قادرة على تحويل هذه الممارسات من عوامل هدم إلى أدوات بناء، عندما تستند القرارات إلى قيم العدالة والنزاهة والشفافية، ويشعر الجميع بأمان مهني ينعكس إيجاباً على جودة الأداء وتعزيز الثقة المؤسسية.

في بعض الأوساط الأكاديمية، تتردد عبارات مثل: "السلامة في الصمت"، و"لقد عبرنا عن آرائنا ولكن لم يؤخذ بها"، كمؤشرات على انعدام الإنصات وتراجع الثقة، وتحول الصمت إلى وسيلة للبقاء. وهنا تتجلى أهمية الحوكمة الرشيدة في بناء بيئة تعزز الثقة، وتزرع ثقافة الإنصات والتقدير، لا التخوف والانعزال. فالحوكمة ليست مجرد قوانين ولوائح، بل هي منظومة تمكين تحول الرأي إلى قيمة، والمبادرة إلى حق، والمساءلة إلى مسار للتطوير المستمر.

لقد أحدث نظام الجامعات الجديد في المملكة العربية السعودية تحولًا نوعيًا في هذا الاتجاه، بمنح الجامعات استقلالية منضبطة في الجوانب الإدارية والأكاديمية والمالية، وتوسيع نطاق صلاحياتها التشغيلية في إطار مؤسسي يربط الصلاحيات بالمساءلة، ويعزز مبادئ الشفافية والجدارة والمسؤولية. وهو يتماشى بوضوح مع رؤية السعودية 2030 التي تهدف إلى تمكين الجامعات وتحريرها من الروتين، وتعزيز تنافسيتها على الصعيدين المحلي والعالمي.

وقد شرعت بالفعل بعض الجامعات السعودية في تشكيل وتفعيل مجالس الأمناء، وتحديد مؤشرات الأداء، ونشر تقاريرها السنوية، إلا أن التباين لا يزال قائماً بين جامعة وأخرى، بل وبين الكليات داخل الجامعة الواحدة. ولا تزال بعض القرارات تتخذ بناءً على ردود أفعال أو اجتهادات فردية، مما يربك الأداء ويضعف الثقة ويشتت جهود الكفاءات.

في بعض البيئات، تتغير الخطط والتوجهات بتغير القيادات، وليس بناءً على تقييم مؤسسي مدروس، بل بسبب الاختلاف في الآراء والاهتمامات. وقد تتوقف مبادرات ناجحة لمجرد أنها لا تتفق مع التخصص الأكاديمي أو التوجه الشخصي. وهنا تتجلى الحوكمة كضمانة لثبات التوجهات، وحماية للخبرات المتراكمة، وتحييد القرارات عن المؤثرات الشخصية، دون أن تعرقل مرونة القيادة أو تحد من فرص التنمية والتحسين.

الجامعة التي تدار برؤية مؤسسية متوازنة، تستند إلى الأنظمة والقوانين، وتسترشد بالمؤشرات الموضوعية، وتشجع المبادرات وتحمي أصحابها، هي الجامعة التي تنتج المعرفة، وتخرج القادة، وتساهم في بناء كوادر وطنية مؤهلة، تعزز التنافسية وتدعم اقتصادًا مستدامًا. أما الجامعات التي تفتقر إلى معايير مؤسسية واضحة، وتتأثر قراراتها بالاجتهادات الفردية، ولا تتقبل الآراء المختلفة، فقد يصعب عليها تحقيق الاستقرار أو تحقيق رسالتها بكفاءة وفاعلية.

إن التاريخ لا يذكر الجامعات التي تقاعست خوفًا من الوقوع في الخطأ، بل يحتفي بتلك التي جعلت من كل تجربة درسًا، ومن كل نظام أساسًا للتطوير، ومن كل مبادرة لبنة في صرح المستقبل المشرق.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة