تحولات الفكر الإسلامي- من الإصلاح التنويري إلى الأصولية المعاصرة

المؤلف: علي العميم07.31.2025
تحولات الفكر الإسلامي- من الإصلاح التنويري إلى الأصولية المعاصرة

يتلاقى باروت في تحليله القيّم، الذي أورده في بحثه الموسوم بـ "المؤثرات الفكرية السلفية على الحركات الإسلامية المعاصرة"، مع الرؤية الثاقبة التي طرحها المفكر مرتضى المطهري في كتابه الرائد "الحركات الإسلامية في القرن الأخير"، الصادر في أواخر العقد المنصرم من القرن الماضي. وكلاهما يرى أن الدعوة الوهابية كانت السبب الجوهري في تقويض مسيرة الإصلاح والنهضة الإسلامية الميمونة التي أطلق شرارتها في العالم العربي كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. بيد أن تحليل باروت يتميز عن وجهة نظر المطهري في عدة جوانب حيوية:

أولاً: يرى باروت أن رشيد رضا كان بمثابة البوابة التي تسللت من خلالها الأفكار الوهابية إلى المدرسة السلفية العقلانية الحضرية، وأن رضا كان الجسر الوحيد الذي عبرت من خلاله الوهابية لتؤثر في فكر جماعة الإخوان المسلمين. في المقابل، يتجاهل المطهري اسم رشيد رضا، ويذكر بدلاً منه أسماء أخرى لشخصيات إصلاحية إسلامية. ثانياً: يختلف باروت عن المطهري في أسلوب الطرح، إذ لم يلجأ إلى استخدام عبارات قاسية ولاذعة – كما فعل المطهري – ضد الإمام أحمد بن حنبل والمذهب الحنبلي وشيخ الإسلام ابن تيمية. ثالثاً: اجتهد باروت في إرجاع صياغة المودودي وسيد قطب لمفهوم الحاكمية إلى تأثرهما بفكر ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب. رابعاً: لا يتبنى باروت نفس الرأي الذي ذهب إليه المطهري من أن سبب انجذاب شريحة واسعة من الشباب العربي إلى التيارات السياسية والاجتماعية العلمانية يكمن في أفول نجم الفكر الإصلاحي في العالم العربي.

لقد أشرت في إحدى مقالاتي السابقة في هذه الزاوية إلى اسم المفكر محمد أسد وكتابه الجليل "الإسلام على مفترق الطرق"، وإلى اسم الدكتور محمد محمد حسين وكتابيه الهامين "حصوننا مهددة من داخلها" و"الإسلام والحضارة الغربية"، وإلى اسم الدكتور محمد البهي وكتابه القيّم "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي". وها أنا أعيد ذكر أسماء هذه الكتب مرة أخرى، ولكن في سياق مختلف تماماً. هذا السياق الجديد يتمثل في أن هذه الكتب المذكورة، بالإضافة إلى كتاب سيد قطب "العدالة الاجتماعية في الإسلام" وكتب أخرى مثل "الجهاد في الإسلام" و"نظرية الإسلام السياسية" و"موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه" و"الإسلام والجاهلية" و"المصطلحات الأربعة في القرآن" و"نحن والحضارة الغربية" و"الحجاب" للمودودي، و"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" و"إلى الإسلام من جديد" و"ردة... ولا أبابكر لها" و"المد والجزر في تاريخ الإسلام" و"بين الصورة والحقيقة" و"بين الهداية والجباية" و"الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية" لأبي الحسن الندوي، و"جاهلية القرن العشرين" و"هل نحن مسلمون؟" لمحمد قطب، و"الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية" لمحمد المبارك، قد اضطلعت جميعها بالأدوار المحورية التالية: أولاً: أحدثت هذه الكتب تغييراً جذرياً في مسار الفكر الإسلامي الذي ازدهر في القرن التاسع عشر في الهند ومصر، والذي تميز بنزعة تقدمية تنويرية توفيقية، وحوّلت هذا الفكر نحو الأصولية. ثانياً: انتصر بعض هذه الكتب، بشكل ضمني أو صريح، لأفكار المعارضين والرافضين لاتجاه المؤسسين الأوائل، سواء كأفراد أو كتيارات فاعلة في الهند، ولم تشهد هذه الأفكار اندثاراً كما حدث في مصر. ثالثاً: أسست بعض هذه الكتب، مثل أعمال المودودي والندوي، مفهومي الحاكمية والتكفير في العالم الإسلامي، وهما المفهومان اللذان ظهرا بقوة في أعمال سيد قطب اللاحقة لكتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام". رابعاً: قامت بعض هذه الكتب، مثل كتاب أبي الحسن الندوي "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية" – الذي صدر عام 1965، وكان في الأصل عبارة عن مقال طويل نُشر عام 1962، ثم طُبع في كتيب بعنوان "موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية" عام 1963 – وكتاب محمد المبارك "الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية" الصادر عام 1968، بتقسيم تاريخ الفكر الإسلامي الحديث إلى مراحل وأطوار، وجعلت هذه الكتب طور المفكرين الإسلاميين الأصوليين هو الطور الواعي والمتوازن والصحيح في فهم الإسلام وفي موقفه المعادي للثقافة والحضارة الغربية. ثم أصبح هذا التقسيم الذي وضعه الندوي والمبارك هو التقسيم السائد في مناهج الثقافة الإسلامية التي تُدرس في العديد من الجامعات في مختلف البلدان العربية والإسلامية، والسائد أيضاً في الأدبيات الإسلامية التي ازدهرت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. خامساً: تُعد هذه الكتب التي ذكرتها من المراجع الأساسية والمرجعيات الهامة للحركة الإسلامية، بشقيها الشيعي والسني.

دعونا نتأمل في كتاب الشيخ محمد مهدي شمس الدين "بين الجاهلية والإسلام" لنستجلي رؤيته القيّمة لمفهوم الجاهلية.

يبدأ الشيخ شمس الدين باستعراض معنى لفظ الجاهلية عند فيليب حتي ومعناه عند جولدزيهر، نقلاً عن كتاب أحمد أمين "فجر الإسلام"، وكذلك معناه عند المؤرخ الماركسي ي. أ. يلياييف، ثم يستقصي معاني هذا اللفظ المختلفة في القرآن الكريم، ويتتبع معانيها في كتب السنة النبوية والتاريخ والأدب والتفسير. وبعد هذا البحث المعمق، يخلص الشيخ شمس الدين إلى أن الجاهلية "ليست – كما جرت العادة على استعمالها في كتب الأدب والتفسير – صفة تختص بالعرب قبل الإسلام لا يشترك فيها معهم أحد غيرهم قبل الإسلام ولا بعده، كما لا يصح إطلاقها عليهم بعد الإسلام، وإنما هي سمة كل مجتمع غير مسلم، سواء في ذلك الشعوب التي عاصرت ظهور الإسلام أو تأخرت عنه". ويعيد الشيخ التأكيد على هذه الخلاصة، فيتمم حديثه، منبهاً إلى أن "فهم الجاهلية على أنها فترة تاريخية سابقة تخص العرب فهم خاطئ، وإنما هي نظام ومنهاج يمكن أن يوجد في كل وقت، ويمكن أن يمثله كل شعب. وعلى هذا فلا تكون سمة خاصة للحياة العربية قبل الإسلام وإنما هي اسم للحياة غير الإسلامية، سواء في تلك التي سبقت الإسلام أو عاصرت ظهوره، أو تأخرت عن مبدأ ظهوره وخالفته في نظامه ونهجه، ونظرته الكلية إلى الكون والحياة والإنسان. ومن هنا فمن الطبيعي إذن أن نتحدث عن الجاهلية الحديثة".

يتفق الشيخ محمد مهدي شمس الدين مع المودودي والندوي وسيد قطب ومحمد قطب في تعميم مفهوم الجاهلية ليشمل التاريخ السحيق والبعيد والتاريخ المتأخر والقريب، ويتفق معهم في أنها ليست إشارة إلى فترة زمنية محددة وخاصة بالعرب، ولكنه يختلف معهم – كما هو رأي بعض علماء الدين السنة وبعض المنظرين الإسلاميين السنة – في إطلاق وصف الجاهلية على العرب وعلى الشعوب الأخرى بعد اعتناقها الإسلام.

ويتفق الشيخ شمس الدين مع المودودي والندوي وسيد قطب ومحمد قطب في اعتبار الحضارة الغربية جاهلية حديثة، وذلك في الفصل الذي عقده بعنوان "الجاهلية الحديثة"، والذي عدد فيه السمات التي تتمثل عنده في المادية والحيوانية واللا أخلاقية وروح العدوان، وهو حديث لا يخرج في نطاقه عما كان يقوله المودودي والندوي وسيد قطب ومحمد قطب وغيرهم من أعلام الثقافة الإسلامية في طورها الأصولي.

ولقد تساوق الشيخ شمس الدين، في ما كتبه تحت عنوان "الموقف السلبي من الحضارة وحركة محمد عبده"، مع التقسيمات التي صنعها الندوي والمبارك، وردد في ما قاله عن محمد إقبال، ما قاله البهي عنه في كتابه "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي".

وفي مقدمة كتابه، نصح الشيخ شمس الدين القارئ، لتكوين فكرة متكاملة عن الجهود الغربية في هدم الإسلام وإفراغه من محتواه في قلوب وعقول المسلمين، بالرجوع إلى كتاب محمد محمد حسين "حصوننا مهددة من داخلها".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة