حكايا الجدة- نجوم هوت وأحزان دفينة في ليالي الشتاء
المؤلف: علي بن محمد الرباعي08.20.2025

في ليالي السمر، وقبل أن يغفو الأحفاد الصغار، كانت الجدة العجوز تتحفهم بحكاياتها القديمة، تحكي لهم عن ثلاث شهب هوت من عليائها ليلة اكتمال القمر، وما انقضى الشهر حتى وارى الثرى الإخوة (الطاوي والعاوي والجاوي)، ثم أقسمت الجدة بأن الفقيه قد علم بخيانة الطاوي، وأنه المتسبب في موت العاوي والجاوي، فاستغرب الأحفاد وتساءلوا عن الطريقة التي عرف بها الفقيه هذه الحقيقة المرة، فأجابتهم بأن الفقيه قد طلب من رجال قساة القلوب أن ينبشوا قبره، فوجدوه يعض على كفنه بأسنانه بغضب مكتوم، فضربوه بعصا غليظة على رأسه لأنه كان مستتبعاً، كشاة تخرج لسانها بعد الذبح، اعترضت زوجة ابنها على هذه الحكايات المرعبة قائلة: "يا عمة، لا تخيفي صغارنا بأساطير الجاهلية، سيصبحون وفراشهم يرتجف خوفاً"، فسكتت الجدة هنيهة، ثم قالت: "لم يبقَ عليّ إلا أن تلجميني كالدابة يا ابنة الأكارم".
توقفت الجدة عن سرد الحكاية، والصغار في شوق لسماع بقيتها، فطلبت منهم أن يدلكوا ظهرها لتكمل الحكاية وهي مستلقية على سريرها، ومن يدلكها بنشاط كانت تبتسم له وتقول: "قام حظك، ضع يدك على العصعوص"، فيضحكون وهم يحركون أصابعهم على عصعصها، وهي تشجعهم قائلة: "أنا فداء الأكف ومن هي أكفه"، ولاحظ أصغرهم أن صدر جدته قد ارتخى، فسألها بفضول: "لماذا صدرك ذابل يا جدتي؟"، فأجابت: "لقد ذوى كما عذوق الذرة التي لم تخصب"، أعجبها السؤال، فقرّبت لهم الصورة قائلة: "الشاة إذا مات حملها، يضرها ذلك ويضعفها، وأنا لم يعد لي في الدنيا إلا أبوكم وعمكم"، فصاحوا بصوت واحد بحماس: "ونحن"، فعلقت الجدة: "الله يطرح فيكم البركة".
غاصت الجدة في نوم عميق، وتداخلت فيه الأحلام، وتثاقلت أنفاسها المنقطعة، فاستيقظت ومثانتها تكاد تنفجر من كثرة فناجين القهوة التي شربتها في الليلة الماضية، فتناولت إبريقها الفضي من تحت سريرها، وخرجت لتتبول في مكان مظلم، فاستعاذت من الشيطان، وما كادت أن تجلس القرفصاء، حتى سمعت صياح التيس من الأسفل، فاختلط عليها الأمر، وزهدت في الطهارة، وبالكاد جمعت شتات نفسها، وسمّت على نفسها بالرحمن، وصعدت إلى الطابق العلوي لتكمل وضوءها أمام السدة، فشعرت بشيء يتحرك بين ساقيها، فصرخت بأعلى صوتها، سمعتها زوجة ابنها فأقبلت مسرعة وهي تردد: "ما بك يا عمة؟ هل لدغك ثعبان؟"، لم ترد عليها، فضربت بكفها على صدرها وذكرت الله ومحمد حبيب الله وفاطمة بنت النبي، فاستغل القط الأسود الفرصة ودخل على ركن البيض، فكسره، والدجاجة والديك ينظران بعيون الحسرة والأسى".
استيقظ حفيدها الأكبر وزوجته الحديثة، في وقت الضحى، فعاتبتهم الجدة قائلة: "ما هذا النوم العميق؟ لقد توسط النهار، وذهب الناس إلى أعمالهم وأنتم ما زلتم تتبادلون الغرام؟"، وأضافت مستعرضة تاريخها ونساء جيلها: "الله يسقي أيام زمان، كانت الفتاة منا تذهب عروساً، وما تشرق الشمس إلا وقربتها ودلوها فوق كتفها، والجماعة يراقبون خطواتها واسعة أم ضيقة"، استحت العروس، ولحقت بعمتها في طرف الشقيق، وعادت بصحن فيه خبز مقمر، وزبدية سمن، فقسمت الخبز وأعطت منه للجدة، التي لم تنزل عينها عن العروس، قالت: "سلمت يداك"، فقربت منها الزبدية وقال: "بللي به الخبز"، فعلقت ضاحكة: الله يرحم من يعرف كيف يأكله، فعم المكان حالة من المرح والضحك الجماعي، العريس وعروسته وأمه والجدة، ولما زاد الضحك، نهرتهم الجدة قائلة ودموعها تترقرق في عينيها: "اللهم اجعله خيراً".
عندما أذن العصر وحان وقت الصلاة، صلت الجدة صلاتها بخشوع، ثم شعرت بضيق في صدرها، وقالت لحفيدها الصغير: "اصعد إلى أعلى الجناح، وتفقد أباك منذ وقت ذهاب الطير في جماعات، لم يعد ولم يرد"، فرفع طرف ثوبه، فرأى تجمعاً عند البئر المهجورة، فعاد إليها وأخبرها بأن الجماعة مجتمعين عند البئر المتهالكة، ففزعت وهللت وكبرت بصوت مرتفع، ثم بدأت تتمايل بين الاستقامة والجلوس، وحملوا الأبطال ابنها، وما وصلوه البيت إلا وقد فارق الحياة، ودخلت الجدة في حزن عميق، زاد من أوجاعها القديمة، واستعادت ذكريات أحزانها في الراحلين، ولكنها خشية على ابنها الأخير عصبت رأسها بعناد وقوة، والتقطت فأسها، وكل يوم تذهب إلى أطراف القرية لجمع الحطب استعداداً للشتاء القادم، وفي ذهابها وإيابها، لاحظت أن زوجة حفيدها تتلاعب بخفة ورشاقة، مثل الطيور المحلقة في السماء.
في إحدى الأمسيات، نصحت أمه بأن تراقبها جيداً، وقالت: "إن هذه الفتاة من بيت متواضع، تبحث عن أي فرصة لتنجب طفلاً، فلا تبتلينا في آخر أيامنا، وابنك الساذج لا يفرق بين الصحيح والخاطئ، أتمنى أن يخذلك الله أنت وهو معها، كان يجب أن تعلمه"، فردت المسكينة ووضعت شرشفها على فمها وهي تردد برجاء: "يا الله، ارزقني الصبر من عندك، الولد رجل ملتحي، هل تريدين مني أن أعلمه كيف ينام مع زوجته؟"، فاستغلت الفرصة وعلقت: "لقد علمتي أباه من قبله حتى رمى نفسه في البئر هرباً منك، وأصبحت ساقيه كأوتاد العصيدة"، فضحكت الأم وابتسمت عيناها وامتلأت بالدموع.
فقامت الأم الطيبة واحتضنتها بحنان، وعندما هدأت، قالت: "أتعلمين يا ابنتي أنك أنتِ من تبقى لي في هذه الدنيا، وأنا لم أتألم إلا من هذه المخلوقة، التي منذ دخلت بيتنا، دخل معه الغبار والضوضاء، وليتنا لم نوصيك يا زوجة ابني بأن تغسلي أقدامها بماء بارد قبل أن تطأ العتبة، لقد شغلكِ قرع الدف والرقص، وكأنكِ تزوجين ابنكِ من ابنة الباشا".
صمتت الجدة ساعة، ثم وضعت كفها على وجهها وربطت ذقنها وقالت بعزم: "هذا وجهي لتصبحن مصنفة للعارف والغريب والراكب المسافر"، وعندما شعرت الجدة بتساهل أهل البيت مع العروس المتفلتة، انتظرتها على الطريق تتعمد مراقبة دخولها وخروجها قائلة: "يقول محمد ملاسي: من رضي بما قسم له، لم يغب عنه شيء، لا تنصحوا الناس، فكل إنسان يعيش برشده، لقد انتشر في الأرض ما ليس له مثيل مثل حزن الصدر، تنتج ثماره ويكتسبها غير أهلها".
توقفت الجدة عن سرد الحكاية، والصغار في شوق لسماع بقيتها، فطلبت منهم أن يدلكوا ظهرها لتكمل الحكاية وهي مستلقية على سريرها، ومن يدلكها بنشاط كانت تبتسم له وتقول: "قام حظك، ضع يدك على العصعوص"، فيضحكون وهم يحركون أصابعهم على عصعصها، وهي تشجعهم قائلة: "أنا فداء الأكف ومن هي أكفه"، ولاحظ أصغرهم أن صدر جدته قد ارتخى، فسألها بفضول: "لماذا صدرك ذابل يا جدتي؟"، فأجابت: "لقد ذوى كما عذوق الذرة التي لم تخصب"، أعجبها السؤال، فقرّبت لهم الصورة قائلة: "الشاة إذا مات حملها، يضرها ذلك ويضعفها، وأنا لم يعد لي في الدنيا إلا أبوكم وعمكم"، فصاحوا بصوت واحد بحماس: "ونحن"، فعلقت الجدة: "الله يطرح فيكم البركة".
غاصت الجدة في نوم عميق، وتداخلت فيه الأحلام، وتثاقلت أنفاسها المنقطعة، فاستيقظت ومثانتها تكاد تنفجر من كثرة فناجين القهوة التي شربتها في الليلة الماضية، فتناولت إبريقها الفضي من تحت سريرها، وخرجت لتتبول في مكان مظلم، فاستعاذت من الشيطان، وما كادت أن تجلس القرفصاء، حتى سمعت صياح التيس من الأسفل، فاختلط عليها الأمر، وزهدت في الطهارة، وبالكاد جمعت شتات نفسها، وسمّت على نفسها بالرحمن، وصعدت إلى الطابق العلوي لتكمل وضوءها أمام السدة، فشعرت بشيء يتحرك بين ساقيها، فصرخت بأعلى صوتها، سمعتها زوجة ابنها فأقبلت مسرعة وهي تردد: "ما بك يا عمة؟ هل لدغك ثعبان؟"، لم ترد عليها، فضربت بكفها على صدرها وذكرت الله ومحمد حبيب الله وفاطمة بنت النبي، فاستغل القط الأسود الفرصة ودخل على ركن البيض، فكسره، والدجاجة والديك ينظران بعيون الحسرة والأسى".
استيقظ حفيدها الأكبر وزوجته الحديثة، في وقت الضحى، فعاتبتهم الجدة قائلة: "ما هذا النوم العميق؟ لقد توسط النهار، وذهب الناس إلى أعمالهم وأنتم ما زلتم تتبادلون الغرام؟"، وأضافت مستعرضة تاريخها ونساء جيلها: "الله يسقي أيام زمان، كانت الفتاة منا تذهب عروساً، وما تشرق الشمس إلا وقربتها ودلوها فوق كتفها، والجماعة يراقبون خطواتها واسعة أم ضيقة"، استحت العروس، ولحقت بعمتها في طرف الشقيق، وعادت بصحن فيه خبز مقمر، وزبدية سمن، فقسمت الخبز وأعطت منه للجدة، التي لم تنزل عينها عن العروس، قالت: "سلمت يداك"، فقربت منها الزبدية وقال: "بللي به الخبز"، فعلقت ضاحكة: الله يرحم من يعرف كيف يأكله، فعم المكان حالة من المرح والضحك الجماعي، العريس وعروسته وأمه والجدة، ولما زاد الضحك، نهرتهم الجدة قائلة ودموعها تترقرق في عينيها: "اللهم اجعله خيراً".
عندما أذن العصر وحان وقت الصلاة، صلت الجدة صلاتها بخشوع، ثم شعرت بضيق في صدرها، وقالت لحفيدها الصغير: "اصعد إلى أعلى الجناح، وتفقد أباك منذ وقت ذهاب الطير في جماعات، لم يعد ولم يرد"، فرفع طرف ثوبه، فرأى تجمعاً عند البئر المهجورة، فعاد إليها وأخبرها بأن الجماعة مجتمعين عند البئر المتهالكة، ففزعت وهللت وكبرت بصوت مرتفع، ثم بدأت تتمايل بين الاستقامة والجلوس، وحملوا الأبطال ابنها، وما وصلوه البيت إلا وقد فارق الحياة، ودخلت الجدة في حزن عميق، زاد من أوجاعها القديمة، واستعادت ذكريات أحزانها في الراحلين، ولكنها خشية على ابنها الأخير عصبت رأسها بعناد وقوة، والتقطت فأسها، وكل يوم تذهب إلى أطراف القرية لجمع الحطب استعداداً للشتاء القادم، وفي ذهابها وإيابها، لاحظت أن زوجة حفيدها تتلاعب بخفة ورشاقة، مثل الطيور المحلقة في السماء.
في إحدى الأمسيات، نصحت أمه بأن تراقبها جيداً، وقالت: "إن هذه الفتاة من بيت متواضع، تبحث عن أي فرصة لتنجب طفلاً، فلا تبتلينا في آخر أيامنا، وابنك الساذج لا يفرق بين الصحيح والخاطئ، أتمنى أن يخذلك الله أنت وهو معها، كان يجب أن تعلمه"، فردت المسكينة ووضعت شرشفها على فمها وهي تردد برجاء: "يا الله، ارزقني الصبر من عندك، الولد رجل ملتحي، هل تريدين مني أن أعلمه كيف ينام مع زوجته؟"، فاستغلت الفرصة وعلقت: "لقد علمتي أباه من قبله حتى رمى نفسه في البئر هرباً منك، وأصبحت ساقيه كأوتاد العصيدة"، فضحكت الأم وابتسمت عيناها وامتلأت بالدموع.
فقامت الأم الطيبة واحتضنتها بحنان، وعندما هدأت، قالت: "أتعلمين يا ابنتي أنك أنتِ من تبقى لي في هذه الدنيا، وأنا لم أتألم إلا من هذه المخلوقة، التي منذ دخلت بيتنا، دخل معه الغبار والضوضاء، وليتنا لم نوصيك يا زوجة ابني بأن تغسلي أقدامها بماء بارد قبل أن تطأ العتبة، لقد شغلكِ قرع الدف والرقص، وكأنكِ تزوجين ابنكِ من ابنة الباشا".
صمتت الجدة ساعة، ثم وضعت كفها على وجهها وربطت ذقنها وقالت بعزم: "هذا وجهي لتصبحن مصنفة للعارف والغريب والراكب المسافر"، وعندما شعرت الجدة بتساهل أهل البيت مع العروس المتفلتة، انتظرتها على الطريق تتعمد مراقبة دخولها وخروجها قائلة: "يقول محمد ملاسي: من رضي بما قسم له، لم يغب عنه شيء، لا تنصحوا الناس، فكل إنسان يعيش برشده، لقد انتشر في الأرض ما ليس له مثيل مثل حزن الصدر، تنتج ثماره ويكتسبها غير أهلها".